فصل: تفسير الآيات رقم (41- 50)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏41- 50‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آَمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آَخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏41‏)‏ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ‏(‏42‏)‏ وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ‏(‏43‏)‏ إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ‏(‏44‏)‏ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ‏(‏45‏)‏ وَقَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ‏(‏46‏)‏ وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ‏(‏47‏)‏ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ‏(‏48‏)‏ وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ ‏(‏49‏)‏ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ‏(‏50‏)‏‏}‏

يتناول هذا الدرس أخطر قضية من قضايا العقيدة الإسلامية، والمنهج الإسلامي‏.‏ ونظام الحكم والحياة في الإسلام‏.‏‏.‏ وهي القضية التي عولجت في سورتي آل عمران والنساء من قبل‏.‏‏.‏ ولكنها هنا في هذه السورة تتخذ شكلاً محدداً مؤكداً؛ يدل عليها النص بألفاظه وعباراته، لا بمفهومه وإيحائه‏.‏‏.‏

إنها قضية الحكم والشريعة والتقاضي- ومن ورائها قضية الألوهية والتوحيد والايمان- والقضية في جوهرها تتلخص في الإجابة على هذا السؤال‏:‏

أيكون الحكم والشريعة والتقاضي حسب مواثيق الله وعقوده وشرائعه التي استحفظ عليها أصحاب الديانات السماوية واحدة بعد الأخرى؛ وكتبها على الرسل، وعلى من يتولون الأمر بعدهم ليسيروا على هداهم‏؟‏ أم يكون ذلك كله للأهواء المتقلبة، والمصالح التي لا ترجع الى أصل ثابت من شرع الله، والعرف الذي يصطلح عليه جيل أو أجيال‏؟‏ وبتعبير آخر‏:‏ أتكون الألوهية والربوبية والقوامة لله في الأرض وفي حياة الناس‏؟‏ أم تكون كلها أو بعضها لأحد من خلقه يشرع للناس ما لم يأذن به الله‏؟‏

الله- سبحانه- يقول‏:‏ إنه هو الله لا إله إلا هو‏.‏ وإن شرائعه التي سنها للناس بمقتضى ألوهيته لهم وعبوديتهم له، وعاهدهم عليها وعلى القيام بها؛ هي التي يجب أن تحكم هذه الأرض، وهي التي يجب أن يتحاكم، إليها الناس وهي التي يجب أن يقضي بها الأنبياء ومن بعدهم من الحكام‏.‏‏.‏

والله- سبحانه- يقول‏:‏ إنه لا هوادة في هذا الأمر، ولا ترخص في شيء منه، ولا انحراف عن جانب ولو صغير‏.‏ وإنه لا عبرة بما تواضع عليه جيل، أو لما اصطلح عليه قبيل، مما لم يأذن به الله في قليل ولا كثير‏!‏

والله- سبحانه- يقول‏:‏ إن المسألة- في هذا كله- مسألة إيمان أو كفر؛ أو إسلام أو جاهلية؛ وشرع أو هوى‏.‏ وإنه لا وسط في هذا الأمر ولا هدنة ولا صلح‏!‏ فالمؤمنون هم الذين يحكمون بما أنزل الله- لا يخرمون منه حرفاً ولا يبدلون منه شيئاً- والكافرون الظالمون الفاسقون هم الذين لا يحكمون بما أنزل الله‏.‏ وأنه إما أن يكون الحكام قائمين على شريعة الله كاملة فهم في نطاق الإيمان‏.‏ وإما أن يكونوا قائمين على شريعة أخرى مما لم يإذن به الله، فهم الكافرون الظالمون الفاسقون‏.‏ وأن الناس إما أن يقبلوا من الحكام والقضاة حكم الله وقضاءه في أمورهم فهم مؤمنون‏.‏‏.‏ وإلا فما هم بالمؤمنين‏.‏‏.‏ ولا وسط بين هذا الطريق وذاك؛ ولا حجة ولا معذرة، ولا احتجاج بمصلحة‏.‏ فالله رب الناس يعلم ما يصلح للناس؛ ويضع شرائعه لتحقيق مصالح الناس الحقيقية‏.‏ وليس أحسن من حكمه وشريعته حكم أو شريعة‏.‏

وليس لأحد من عباده أن يقول‏:‏ إنني أرفض شريعة الله، أو إنني أبصر بمصلحة الخلق من الله‏.‏‏.‏ فإن قالها- بلسانه أو بفعله- فقد خرج من نطاق الإيمان‏.‏‏.‏

هذه هي القضية الخطيرة الكبيرة التي يعالجها هذا الدرس في نصوص تقريرية صريحة‏.‏‏.‏ ذلك إلى جانب ما يصوره من حال اليهود في المدينة، ومناوراتهم ومؤامراتهم مع المنافقين‏:‏ ‏{‏من الذين قالوا‏:‏ آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم‏}‏‏.‏ وما يوجه به رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لمواجهة هذا الكيد الذي لم تكف عنه يهود، منذ أن قامت للإسلام دولة في المدينة‏.‏‏.‏

والسياق القرآني في هذا الدرس يقرر أولاً‏:‏ توافي الديانات التي جاءت من عند الله كلها على تحتيم الحكم بما أنزله الله؛ وإقامة الحياة كلها على شريعة الله؛ وجعل هذا الأمر مفرق الطريق بين الإيمان والكفر؛ وبين الإسلام والجاهلية؛ وبين الشرع والهوى‏.‏‏.‏ فالتوراة أنزلها الله فيها هدى ونور‏:‏ ‏{‏يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء‏}‏‏.‏‏.‏ ‏{‏وعندهم التوارة فيها حكم الله‏}‏‏.‏‏.‏ ‏{‏وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس‏.‏‏.‏ الخ‏}‏‏.‏‏.‏ والإنجيل آتاه الله عيسى بن مريم ‏{‏مصدقاً لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين‏.‏ وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه‏}‏‏.‏‏.‏ والقرآن أنزله الله على رسوله ‏{‏بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه‏}‏ وقال له‏:‏ ‏{‏فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق‏}‏‏.‏‏.‏ ‏{‏ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون‏}‏‏.‏‏.‏ ‏{‏ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون‏}‏‏.‏‏.‏ ‏{‏ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون‏}‏‏.‏‏.‏ ‏{‏أفحكم الجاهلية يبغون‏؟‏ ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏ وكذلك تتوافى الديانات كلها على هذا الأمر، ويتعين حد الإيمان وشرط الإسلام، سواء للمحكومين أو للحكام‏.‏‏.‏ والمناط هو الحكم بما أنزل الله من الحكام، وقبول هذا الحكم من المحكومين، وعدم ابتغاء غيره من الشرائع والأحكام‏.‏‏.‏

والمسألة في هذا الوضع خطيرة؛ والتشدد فيها على هذا النحو يستند إلى أسباب لا بد خطيرة كذلك‏.‏ فما هي يا ترى هذه الأسباب‏؟‏ إننا نحاول أن نتلمسها سواء في هذه النصوص أو في السياق القرآني كله، فنجدها واضحة بارزة‏.‏‏.‏

إن الاعتبار الأول في هذه القضية هو أنها قضية الإقرار بألوهية الله وربوبيته وقوامته على البشر- بلا شريك- أو رفض هذا الإقرار‏.‏‏.‏ ومن هنا هي قضية كفر أو إيمان، وجاهلية أو إسلام‏.‏‏.‏

‏.‏‏.‏ والقرآن كله معرض بيان هذه الحقيقة‏.‏‏.‏

إن الله هو الخالق‏.‏‏.‏ خلق هذا الكون، وخلق هذا الإنسان‏.‏ وسخر ما في السماوات والأرض لهذا الإنسان‏.‏‏.‏ وهو- سبحانه- متفرد بالخلق، لا شريك له في كثير منه أو قليل‏.‏

وإن الله هو المالك‏.‏

‏.‏ بما أنه هو الخالق‏.‏‏.‏ ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما‏.‏‏.‏ فهو- سبحانه- متفرد بالملك‏.‏ لا شريك له في كثير منه أو قليل‏.‏

وإن الله هو الرازق‏.‏‏.‏ فلا يملك أحد أن يرزق نفسه أو غيره شيئاً‏.‏ لا من الكثير ولا من القليل‏.‏‏.‏

وإن الله هو صاحب السلطان المتصرف في الكون والناس‏.‏‏.‏ بما أنه هو الخالق المالك الرازق‏.‏‏.‏ وبما أنه هو صاحب القدرة التي لا يكون بدونها خلق ولا رزق ولا نفع ولا ضر‏.‏ وهو- سبحانه- المتفرد بالسلطان في هذا الوجود‏.‏

والإيمان هو الإقرار لله- سبحانه- بهذه الخصائص‏.‏ الألوهية، والملك، والسلطان‏.‏‏.‏‏.‏ متفرداً بها لا يشاركه فيها أحد‏.‏ والإسلام هو الاستسلام والطاعة لمقتضيات هذه الخصائص‏.‏‏.‏ هو إفراد الله- سبحانه- بالألوهية والربوبية والقوامة على الوجود كله- وحياة الناس ضمناً- والاعتراف بسلطانه الممثل في قدَره؛ والممثل كذلك في شريعته‏.‏ فمعنى الاستسلام لشريعة الله هو- قبل كل شيء- الاعتراف بألوهيته وربوبيته وقوامته وسلطانه‏.‏ ومعنى عدم الاستسلام لهذه الشريعة، واتخاذ شريعة غيرها في أية جزئية من جزئيات الحياة، هو- قبل كل شيء- رفض الاعتراف بألوهية الله وربوبيته وقوامته وسلطانه‏.‏‏.‏ ويستوي أن يكون الاستسلام أو الرفض باللسان أو بالفعل دون القول‏.‏‏.‏ وهي من ثم قضية كفر أو إيمان؛ وجاهلية أو إسلام‏.‏ ومن هنا يجيء هذا النص‏:‏ ‏{‏ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون‏}‏‏.‏‏.‏ ‏{‏الظالمون‏}‏‏.‏‏.‏ ‏{‏الفاسقون‏}‏‏.‏

والاعتبار الثاني هو اعتبار الأفضلية الحتمية المقطوع بها لشريعة الله على شرائع الناس‏.‏‏.‏ هذه الأفضلية التي تشير إليها الآية الأخيرة في هذا الدرس‏:‏ ‏{‏ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

والاعتراف المطلق بهذه الأفضلية لشريعة الله، في كل طور من أطوار الجماعة، وفي كل حالة من حالاتها‏.‏‏.‏ هو كذلك داخل في قضية الكفر والإيمان‏.‏‏.‏ فما يملك إنسان أن يدعي أن شريعة أحد من البشر، تفضل أو تماثل شريعة الله، في أية حالة أو في أي طور من أطوار الجماعة الإنسانية‏.‏‏.‏ ثم يدعي- بعد ذلك- أنه مؤمن بالله، وأنه من المسلمين‏.‏‏.‏ إنه يدعي أنه أعلم من الله بحال الناس؛ وأحكم من الله في تدبير أمرهم‏.‏ أو يدعي أن أحوالاً وحاجات جرت في حياة الناس، وكان الله- سبحانه- غير عالم بها وهو يشرع شريعته؛ أو كان عالماً بها ولكنه لم يشرع لها‏!‏ ولا تستقيم مع هذا الادعاء دعوى الإيمان والإسلام‏.‏ مهما قالها باللسان‏!‏

فأما مظاهر هذه الأفضلية فيصعب إدراكها كلها‏.‏ فإن حكمة شرائع الله لا تنكشف كلها للناس في جيل من الأجيال‏.‏ والبعض الذي ينكشف يصعب التوسع في عرضه هنا‏.‏‏.‏ في الظلال‏.‏‏.‏ فنكتفي منه ببعض اللمسات‏:‏

إن شريعة الله تمثل منهجاً شاملاً متكاملاً للحياة البشرية؛ يتناول بالتنظيم والتوجيه والتطوير كل جوانب الحياة الإنسانية؛ في جميع حالاتها، وفي كل صورها وأشكالها‏.‏

وهو منهج قائم على العلم المطلق بحقيقة الكائن الإنساني، والحاجات الإنسانية، وبحقيقة الكون الذي يعيش فيه الإنسان؛ وبطبيعة النواميس التي تحكمه وتحكم الكينونة الإنسانية‏.‏‏.‏ ومن ثم لا يفرط في شيء من أمور هذه الحياة؛ ولا يقع فيه ولا ينشأ عنه أي تصادم مدمر بين أنواع النشاط الإنساني؛ ولا أي تصادم مدمر بين هذا النشاط والنواميس الكونية؛ إنما يقع التوازن والاعتدال والتوافق والتناسق‏.‏‏.‏ الأمر الذي لا يتوافر أبداً لمنهج من صنع الإنسان الذي لا يعلم إلا ظاهراً من الأمر؛ وإلا الجانب المكشوف في فترة زمنية معينة؛ ولا يسلم منهج يبتدعه من آثار الجهل الإنساني؛ ولا يخلو من التصادم المدمر بين بعض ألوان النشاط وبعض‏.‏ والهزات العنيفة الناشئة عن هذا التصادم‏.‏

وهو منهج قائم على العدل المطلق‏.‏‏.‏ أولاً‏.‏‏.‏ لأن الله يعلم حق العلم بم يتحقق العدل المطلق وكيف يتحقق‏.‏‏.‏ وثانياً‏.‏‏.‏ لأنه- سبحانه- رب الجميع؛ فهو الذي يملك أن يعدل بين الجميع؛ وأن يجيء منهجه وشرعه مبرأ من الهوى والميل والضعف- كما أنه مبرأ من الجهل والقصور والغلو والتفريط- الأمر الذي لا يمكن أن يتوافر في أي منهج أو في أي شرع من صنع الإنسان، ذي الشهوات والميول، والضعف والهوى- فوق ما به من الجهل والقصور- سواء كان المشرع فرداً، أو طبقة، أو أمة، أو جيلاً من أجيال البشر‏.‏‏.‏ فلكل حالة من هذه الحالات أهواؤها وشهواتها وميولها ورغباتها؛ فوق أن لها جهلها وقصورها وعجزها عن الرؤية الكاملة لجوانب الأمر كله حتى في الحالة الواحدة في الجيل الواحد‏.‏‏.‏

وهو منهج متناسق مع ناموس الكون كله‏.‏ لأن صاحبه هو صاحب هذا الكون كله‏.‏ صانع الكون وصانع الإنسان‏.‏ فإذا شرع للإنسان شرع له كعنصر كوني، له سيطرة على عناصر كونية مسخرة له بأمر خالقه؛ بشرط السير على هداه، وبشرط معرفة هذه العناصر والقوانين التي تحكمها‏.‏‏.‏ ومن هنا يقع التناسق بين حركة الإنسان وحركة الكون الذي يعيش فيه؛ وتأخذ الشريعة التي تنظم حياته طابعاً كونياً، ويتعامل بها لا مع نفسه فحسب، ولا مع بني جنسه فحسب‏!‏ ولكن كذلك مع الأحياء والأشياء في هذا الكون العريض، الذي يعيش فيه، ولا يملك أن ينفذ منه، ولا بدَّ له من التعامل معه وفق منهاج سليم قويم‏.‏

ثم‏.‏‏.‏ إنه المنهج الوحيد الذي يتحرر فيه الإنسان من العبودية للإنسان‏.‏‏.‏ ففي كل منهج- غير المنهج الإسلامي- يتعبد الناس الناس‏.‏ ويعبد الناس الناس‏.‏ وفي المنهج الإسلامي- وحده- يخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده بلا شريك‏.‏‏.‏

إن أخص خصائص الألوهية- كما أسلفنا- هي الحاكمية‏.‏‏.‏ والذي يشرع لمجموعة من الناس يأخذ فيهم مكان الألوهية ويستخدم خصائصها‏.‏

فهم عبيده لا عبيد الله، وهم في دينه لا في دين الله‏.‏

والإسلام حين يجعل الشريعة لله وحده، يخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ويعلن تحرير الإنسان‏.‏ بل يعلن «ميلاد الإنسان»‏.‏‏.‏ فالإنسان لا يولد، ولا يوجد، إلا حيث تتحرر رقبته من حكم إنسان مثله؛ وإلا حين يتساوى في هذا الشأن مع الناس جميعاً أمام رب الناس‏.‏‏.‏

إن هذه القضية التي تعالجها نصوص هذا الدرس هي أخطر وأكبر قضايا العقيدة‏.‏‏.‏ إنها قضية الألوهية والعبودية‏.‏ قضية العدل والصلاح‏.‏ قضية الحرية والمساواة‏.‏ قضية تحرر الإنسان- بل ميلاد الإنسان- وهي من أجل هذا كله كانت قضية الكفر أو الإيمان، وقضية الجاهلية أو الإسلام‏.‏‏.‏

والجاهلية ليست فترة تاريخية؛ إنما هي حاله توجد كلما وجدت مقوماتها في وضع أو نظام‏.‏‏.‏ وهي في صميمها الرجوع بالحكم والتشريع إلى أهواء البشر، لا إلى منهج الله وشريعته للحياة‏.‏ ويستوي أن تكون هذه الأهواء أهواء فرد، أو أهواء طبقة، أو أهواء أمة، أو أهواء جيل كامل من الناس‏.‏‏.‏ فكلها‏.‏‏.‏ ما دامت لا ترجع إلى شريعة الله‏.‏‏.‏ أهواء‏.‏‏.‏

يشرع فرد لجماعة فإذا هي جاهلية‏.‏ لأن هواه هو القانون‏.‏‏.‏ أو رأيه هو القانون‏.‏‏.‏ لا فرق إلا في العبارات‏!‏

وتشرع طبقة لسائر الطبقات فإذا هي جاهلية‏.‏ لأن مصالح تلك الطبقة هي القانون- أو رأي الأغلبية البرلمانية هو القانون- فلا فرق إلا في العبارات‏!‏

ويشرع ممثلوا جميع الطبقات وجميع القطاعات في الأمه لأنفسهم فإذا هي جاهلية‏.‏‏.‏ لأن أهواء الناس الذين لا يتجردون أبداً من الأهواء، ولأن جهل الناس الذين لا يتجردون أبداً من الجهل، هو القانون- أو لأن رأي الشعب هو القانون- فلا فرق إلا في العبارات‏!‏

وتشرع مجموعة من الأمم للبشرية فإذا هي جاهلية‏.‏ لأن أهدافها القومية هي القانون- أو رأي المجامع الدولية هو القانون- فلا فرق إلا في العبارات‏!‏

ويشرع خالق الأفراد، وخالق الجماعات، وخالق الأمم والأجيال، للجميع، فإذا هي شريعة الله التي لا محاباة فيها لأحد على حساب أحد‏.‏ لا لفرد ولا لجماعة ولا لدولة، ولا لجيل من الأجيال‏.‏ لأن الله رب الجميع والكل لديه سواء‏.‏ ولأن الله يعلم حقيقة الجميع ومصلحة الجميع، فلا يفوته- سبحانه- أن يرعى مصالحهم وحاجاتهم بدون تفريط ولا إفراط‏.‏

ويشرع غير الله للناس‏.‏‏.‏ فإذا هم عبيد من يشرع لهم‏.‏ كائناً من كان‏.‏ فرداً أو طبقة أو أمة أو مجموعة من الأمم‏.‏‏.‏

ويشرع الله للناس‏.‏‏.‏ فإذا هم كلهم أحرار متساوون، لا يحنون جباههم إلا لله، ولا يعبدون إلا الله‏.‏

ومن هنا خطورة هذه القضية في حياة بني الإنسان، وفي نظام الكون كله‏:‏

‏{‏ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن‏}‏‏.‏ فالحكم بغير ما أنزل الله معناه الشر والفساد والخروج في النهاية عن نطاق الإيمان‏.‏‏.‏ بنص القرآن‏.‏‏.‏

‏{‏يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر، من الذين قالوا‏:‏ آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم، ومن الذين هادوا‏.‏‏.‏ سماعون للكذب، سماعون لقوم آخرين لم يأتوك، يحرفون الكلم من بعد مواضعه، يقولون‏:‏ إن أوتيتم هذا فخذوه، وإن لم تؤتوه فاحذروا‏.‏ ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً‏.‏ أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم‏.‏ لهم في الدنيا خزي، ولهم في الآخرة عذاب عظيم‏.‏ سماعون للكذب، أكالون للسحت‏.‏ فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم‏.‏ وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئاً‏.‏ وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط‏.‏ إن الله يحب المقسطين‏.‏ وكيف يحكمونك- وعندهم التوراة فيها حكم الله- ثم يتولون من بعد ذلك‏؟‏ وما أولئك بالمؤمنين‏}‏‏.‏‏.‏

هذه الآيات تشي بأنها مما نزل في السنوات الأولى للهجرة؛ حيث كان اليهود ما يزالون بالمدينة- أي قبل غزوة الأحزاب على الأقل وقبل التنكيل ببني قريظة إن لم يكن قبل ذلك، أيام أن كان هناك بنو النضير وبنو قينقاع، وأولاهما أجليت بعد أحد والثانيه أجليت قبلها- ففي هذه الفترة كان اليهود يقومون بمناوراتهم هذه؛ وكان المنافقون يأرزون إليهم كما تأرز الحية إلى الجحر‏!‏ وكان هؤلاء وهؤلاء يسارعون في الكفر؛ ولو قال المنافقون بأفواههم‏:‏ آمنا‏.‏‏.‏ وكان فعلهم هذا يحزن الرسول- صلى الله عليه وسلم- ويؤذيه‏.‏‏.‏

والله- سبحانه- يعزي رسوله- صلى الله عليه وسلم- ويواسيه؛ ويهون عليه فعال القوم، ويكشف للجماعة المسلمة حقيقة المسارعين في الكفر من هؤلاء وهؤلاء؛ ويوجه الرسول- صلى الله عليه وسلم- إلى المنهج الذي يسلكه معهم حين يأتون إليه متحاكمين؛ بعد ما يكشف له عما تآمروا عليه قبل أن يأتوا إليه وما بيتوه‏:‏

‏{‏يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر، من الذين قالوا‏:‏ آمنا، بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم، ومن الذين هادوا‏.‏‏.‏ سماعون للكذب، سماعون لقوم آخرين لم يأتوك‏.‏ يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون‏:‏ إن أوتيتم هذا فخذوه، وإن لم تؤتوه فاحذروا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏

روي أن هذه الآيات نزلت في قوم من اليهود ارتكبوا جرائم- تختلف الروايات في تحديدها- منها الزنا ومنها السرقة‏.‏‏.‏ وهي من جرائم الحدود في التوراة؛ ولكن القوم كانوا قد اصطلحوا على غيرها؛ لأنهم لم يريدوا أن يطبقوها على الشرفاء فيهم في مبدأ الأمر‏.‏ ثم تهاونوا فيها بالقياس إلى الجميع، وأحلوا محلها عقوبات أخرى من عقوبات التعازير ‏(‏كما صنع الذين يزعمون أنهم مسلمون في هذا الزمان‏!‏‏)‏‏.‏‏.‏ فلما وقعت منهم هذه الجرائم في عهد الرسول- صلى الله عليه وسلم- تآمروا على أن يستفتوه فيها‏.‏

‏.‏ فإذا أفتى لهم بالعقوبات التعزيرية المخففة عملوا بها، وكانت هذه حجة لهم عند الله‏.‏‏.‏ فقد أفتاهم بها رسول‏!‏‏.‏‏.‏ وإن حكم فيها بمثل ما عندهم في التوراة لم يأخذوا بحكمه‏.‏‏.‏ فدسوا بعضهم يستفتيه‏.‏‏.‏ ومن هنا حكاية قولهم‏:‏

‏{‏إن أوتيتم هذا فخذوه، وإن لم تؤتوه فاحذروا‏}‏‏.‏‏.‏

وهكذا بلغ منهم العبث، وبلغ منهم الاستهتار، وبلغ منهم الالتواء أيضاً في التعامل مع الله والتعامل مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- هذا المبلغ‏.‏‏.‏ وهي صورة تمثل أهل كل كتاب حين يطول عليهم الأمد، فتقسو قلوبهم؛ وتبرد فيها حرارة العقيدة، وتنطفئ شعلتها؛ ويصبح التفصي من هذه العقيدة وشرائعها وتكاليفها هو الهدف الذي يبحث له عن الوسائل؛ ويبحث له عن «الفتاوى» لعلها تجد مخرجاً وحيلة؛ أليس الشأن كذلك اليوم بين الذين يقولون‏:‏ إنهم مسلمون‏:‏ ‏{‏من الذين قالوا‏:‏ آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم‏}‏ ‏!‏ أليسوا يتلمسون الفتوى للاحتيال على الدين لا لتنفيذ الدين‏؟‏ أليسوا يتمسحون بالدين أحياناً لكي يقر لهم أهواءهم ويوقع بالموافقة عليها‏!‏ فأما إن قال الدين كلمة الحق وحكم الحق فلا حاجة بهم إليه‏.‏‏.‏ ‏{‏يقولون‏:‏ إن أوتيتم هذا فخذوه؛ وإن لم تؤتوه فاحذروا‏}‏ ‏!‏ إنه الحال نفسه‏.‏ ولعله لهذا كان الله- سبحانه- يقص قصة بني إسرائيل بهذا الإسهاب وهذا التفصيل، لتحذر منها أجيال «المسلمين» وينتبه الواعون منها لمزالق الطريق‏.‏

والله- سبحانه- يقول لرسوله في شأن هؤلاء المسارعين بالكفر، وفي شأن هؤلاء المتآمرين المبيتين لهذه الألاعيب‏:‏ لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر‏.‏ فهم يسلكون سبيل الفتنة، وهم واقعون فيها، وليس لك من الأمر شيء، وما أنت بمستطيع أن تدفع عنهم الفتنة وقد سلكوا طريقها ولجوا فيها‏:‏

‏{‏ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً‏}‏‏.‏‏.‏

وهؤلاء دنست قلوبهم، فلم يرد الله أن يطهرها، وأصحابها يلجون في الدنس‏:‏

‏{‏أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم‏}‏‏.‏‏.‏

وسيجزيهم بالخزي في الدنيا والعذاب العظيم في الآخرة‏:‏

‏{‏لهم في الدنيا خزي، ولهم في الآخرة عذاب عظيم‏}‏‏.‏‏.‏

فلا عليك منهم، ولا يحزنك كفرهم، ولا تحفل بأمرهم‏.‏ فهو أمر مقضي فيه‏.‏‏.‏

ثم يمضي في بيان حال القوم، وما انتهوا إليه من فساد في الخلق والسلوك، قبل أن يبين لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- كيف يتعامل معهم إذا جاءوا إليه متحاكمين‏:‏

‏{‏سماعون للكذب، أكالون للسحت‏.‏ فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم‏.‏ وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئاً‏.‏ وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط، إن الله يحب المقسطين‏}‏‏.‏‏.‏

كرر أنهم سماعون للكذب‏.‏ مما يشي بأن هذه أصبحت خصلة لهم‏.‏‏.‏ تهش نفوسهم لسماع الكذب والباطل، وتنقبض لسماع الحق والصدق‏.‏‏.‏ وهذه طبيعة القلوب حين تفسد، وعادة الأرواح حين تنطمس‏.‏

‏.‏ ما أحب كلمة الباطل والزور في المجتمعات المنحرفة، وما أثقل كلمة الحق والصدق في هذه المجتمعات‏.‏‏.‏ وما أروج الباطل في هذه الآونة وما أشد بوار الحق في هذه الفترات الملعونة‏!‏

وهؤلاء‏:‏ سماعون للكذب‏.‏ أكالون للسحت‏.‏‏.‏ والسحت كل مال حرام‏.‏‏.‏ والربا والرشوة وثمن الكلمة والفتوى‏!‏ في مقدمة ما كانوا يأكلون، وفي مقدمة ما تأكله المجتمعات التي تنحرف عن منهج الله في كل زمان‏!‏ وسمي الحرام سحتاً لأنه يقطع البركة ويمحقها‏.‏ وما أشد أنقطاع البركة وزوالها من المجتمعات المنحرفة‏.‏ كما نرى ذلك بأعيننا في كل مجتمع شارد عن منهج الله وشريعة الله‏.‏

ويجعل الله الأمر للرسول بالخيار في أمرهم إذا جاءوه يطلبون حكمه- فإن شاء أعرض عنهم- ولن يضروه شيئاً- وإن شاء حكم بينهم‏.‏ فإذا اختار أن يحكم حكم بينهم بالقسط، غير متأثر بأهوائهم، وغير متأثر كذلك بمسارعتهم في الكفر ومؤامراتهم ومناوراتهم‏.‏‏.‏

‏{‏إن الله يحب المقسطين‏}‏‏.‏‏.‏

والرسول- صلى الله عليه وسلم- والحاكم المسلم، والقاضي المسلم، إنما يتعامل مع الله في هذا الشأن؛ وإنما يقوم بالقسط لله‏.‏ لأن الله يحب المقسطين‏.‏ فإذا ظلم الناس وإذا خانوا، وإذا انحرفوا، فالعدل فوق التأثر بكل ما يصدر منهم‏.‏ لأنه ليس عدلاً لهم؛ وإنما هو لله‏.‏‏.‏ وهذا هو الضمان الأكيد في شرع الإسلام وقضاء الإسلام، في كل مكان وفي كل زمان‏.‏

وهذا التخيير في أمر هؤلاء اليهود يدل على نزول هذا الحكم في وقت مبكر‏.‏ إذ أنه بعد ذلك أصبح الحكم والتقاضي لشريعة الإسلام حتمياً‏.‏ فدار الإسلام لا تطبق فيها إلا شريعة الله‏.‏ وأهلها جميعاً ملزمون بالتحاكم إلى هذه الشريعة‏.‏ مع اعتبار المبدأ الإسلامي الخاص بأهل الكتاب في المجتمع المسلم في دار الإسلام؛ وهو ألا يجبروا إلا على ما هو وارد في شريعتهم من الأحكام؛ وعلى ما يختص بالنظام العام‏.‏ فيباح لهم ما هو مباح في شرائعهم، كامتلاك الخنزير وأكله، وتملك الخمر وشربه دون بيعه للمسلم‏.‏ ويحرم عليهم التعامل الربوي لأنه محرم عندهم‏.‏ وتوقع عليهم حدود الزنا والسرقة لأنها واردة في كتابهم وهكذا‏.‏ كما توقع عليهم عقوبات الخروج على النظام العام والإفساد في الأرض كالمسلمين سواء، لأن هذا ضروري لأمن دار الإسلام وأهلها جميعاً‏:‏ مسلمين وغير مسلمين‏.‏ فلا يتسامح فيها مع أحد من أهل دار الإسلام‏.‏‏.‏

وفي تلك الفترة التي كان الحكم فيها على التخيير، كانوا يأتون ببعض قضاياهم إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-؛ مثال ذلك ما رواه مالك، عن نافع، عن عبدالله بن عمر- رضي الله عنهما-‏:‏ «إن اليهود جاءوا إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فذكروا له أن رجلاً منهم وامرأة زنيا‏.‏ فقال لهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم-» ما تجدون في التوراة في شأن الرجم‏؟‏ «فقالوا‏:‏ نفضحهم ويجلدون‏.‏ قال عبدالله بن سلام‏:‏ كذبتم‏.‏ إن فيها الرجم‏.‏ فأتوا بالتوراة فنشروها‏.‏ فوضع أحدهم يده على آية الرجم، فقرأ ما قبلها وما بعدها‏.‏ فقال عبدالله بن سلام‏:‏ ارفع يدك‏.‏ فرفع يده فإذا آية الرجم‏.‏ فقالوا‏:‏ صدق يا محمد فيها آية الرجم‏!‏ فأمر بهما رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فرجما‏.‏ فرأيت الرجل يحني على المرأة يقيها الحجارة»

‏.‏ ‏(‏أخرجه الشيخان واللفظ للبخاري‏)‏

ومثال ذلك ما رواه الإمام أحمد- بإسناده- عن ابن عباس قال‏:‏

«أنزلها الله في الطائفتين من اليهود، وكانت إحداهما قد قهرت الأخرى في الجاهلية، حتى ارتضوا واصطلحوا على أن كل قتيل قتلته العزيزة من الذليلة فديته خمسون وسقا، وكل قتيل قتلته الذليلة من العزيزة فديته مائة وسق‏.‏ فكانوا على ذلك حتى قدم النبي- صلى الله عليه وسلم- فقتلت الذليلة من العزيزة قتيلاً، فأرسلت العزيزة إلى الذليلة أن ابعثوا لنا بمائة وَسق فقالت الذليلة‏:‏ وهل كان في حيين دينهما واحد، ونسبهما واحد، وبلدهما واحد، دية بعضهم نصف دية بعض‏؟‏ إنما أعطيناكم هذا ضيماً منكم لنا، وفرقاً منكم‏.‏ فأما إذ قدم محمد فلا نعطيكم‏!‏ فكادت الحرب تهيج بينهما‏.‏ ثم ارتضوا على أن يجعلوا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حكماً بينهم‏.‏ ثم ذكرت العزيزة، فقالت‏:‏ والله ما محمد بمعطيكم منهم ضعف ما يعطيهم منكم، ولقد صدقوا، ما أعطونا هذا إلا ضيماً منا وقهراً لهم‏!‏ فدسوا إلى محمد من يخبر لكم رأيه‏.‏‏.‏ إن أعطاكم ما تريدون حكمتموه، وإن لم يعطكم حذرتم فلم تحكموه‏!‏ فدسوا إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ناساً من المنافقين ليخبروا لهم رأي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فلما جاءوا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أخبر الله رسوله ص بأمرهم كله وما أرادوا‏.‏ فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر‏}‏، إلى قوله‏:‏ ‏{‏الفاسقون‏}‏‏.‏‏.‏ ففيهم والله أنزل، وإياهم عنى الله عز وجل‏.‏‏.‏ ‏(‏أخرجه أبو داود من حديث أبى الزناد عن أبيه‏)‏‏.‏‏.‏ وفي رواية لابن جرير عين فيها» العزيزة «وهي بنو النضير» والذليلة «وهي بنو قريظة‏.‏‏.‏ مما يدل- كما قلنا- على أن هذه الآيات نزلت مبكرة قبل إجلائهم والتنكيل بهم‏.‏‏.‏

وقد عقب السياق بسؤال استنكاري على موقف يهود- سواء كان في هذه القضية أو تلك فهو موقف عام منهم وتصرف مطرد- فقال‏:‏

‏{‏وكيف يحكمونك- وعندهم التوارة فيها حكم الله- ثم يتولون من بعد ذلك‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

فهي كبيرة مستنكرة أن يحكموا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فيحكم بشريعة الله وحكم الله، وعندهم- إلى جانب هذا- التوراة فيها شريعة الله وحكمه؛ فيتطابق حكم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وما عندهم في التوراة؛ مما جاء القرآن مصدقاً له ومهيمناً عليه‏.‏

‏.‏ ثم من بعد ذلك يتولون ويعرضون‏.‏ سواء كان التولي بعدم التزام الحكم؛ أو بعدم الرضى به‏.‏‏.‏

ولا يكتفي السياق بالاستنكار‏.‏ ولكنه يقرر الحكم الإسلامي في مثل هذا الموقف‏:‏

‏{‏وما أولئك بالمؤمنين‏}‏‏.‏‏.‏

فما يمكن أن يجتمع الإيمان، وعدم تحكيم شريعة الله، أو عدم الرضى بحكم هذه الشريعة‏.‏ والذين يزعمون لأنفسهم أو لغيرهم أنهم «مؤمنون» ثم هم لا يحكمون شريعة الله في حياتهم، أو لا يرضون حكمها إذا طبق عليهم‏.‏‏.‏ إنما يدعون دعوى كاذبة؛ وإنما يصطدمون بهذا النص القاطع‏:‏ ‏{‏وما أولئك بالمؤمنين‏}‏‏.‏ فليس الأمر في هذا هو أمر عدم تحكيم شريعة الله من الحكام فحسب؛ بل إنه كذلك عدم الرضى بحكم الله من المحكومين، يخرجهم من دائرة الإيمان، مهما ادعوه باللسان‏.‏

وهذا النص هنا يطابق النص الآخر، في سورة النساء‏:‏ ‏{‏فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم، ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت، ويسلموا تسليماً‏}‏ فكلاهما يتعلق بالمحكومين لا بالحكام‏.‏ وكلاهما يخرج من الإيمان، وينفي صفة الإيمان عمن لا يرضى بحكم الله ورسوله، ومن يتولى عنه ويرفض قبوله‏.‏

ومرد الأمر كما قلنا في مطلع الحديث عن هذا الدرس‏.‏‏.‏ أن القضية هي قضية الإقرار بألوهية الله- وحده- وربوبيته وقوامته على البشر‏.‏ أو رفض هذا الإقرار‏.‏ وأن قبول شريعة الله والرضى بحكمها هو مظهر الإقرار بألوهيته وربوبيته وقوامته؛ ورفضها والتولي عنها هو مظهر رفض هذا الإقرار‏.‏

ذلك كان حكم الله على المحكومين الذين لا يقبلون حكم شريعة الله في حياتهم‏.‏‏.‏ فالآن يجيء حكمه- تعالى- على الحاكمين، الذين لا يحكمون بما أنزل الله‏.‏ الحكم الذي تتوافى جميع الديانات التي جاءت من عند الله عليه‏:‏

ويبدأ بالتوراة‏:‏

‏{‏إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور‏.‏ يحكم بها النبيون الذين أسلموا، للذين هادوا، والربانيون والأحبار، بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء؛ فلا تخشوا الناس واخشون، ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً‏.‏ ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون‏.‏ وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس، والعين بالعين، والأنف بالأنف، والأذن بالأذن، والسن بالسن، والجروح قصاص‏.‏ فمن تصدق به فهو كفارة له‏.‏ ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون‏}‏‏.‏‏.‏

لقد جاء كل دين من عندالله ليكون منهج حياة‏.‏ منهج حياة واقعية‏.‏ جاء الدين ليتولى قيادة الحياة البشرية، وتنظيمها، وتوجيهها، وصيانتها‏.‏ ولم يجيء دين من عند الله ليكون مجرد عقيدة في الضمير؛ ولا ليكون كذلك مجرد شعائر تعبدية تؤدى في الهيكل والمحراب‏.‏

فهذه وتلك- على ضرورتهما للحياة البشرية وأهميتهما في تربية الضمير البشري- لا يكفيان وحدهما لقيادة الحياة وتنظيمها وتوجيهها وصيانتها؛ ما لم يقم على أساسهما منهج ونظام وشريعة تطبق عملياً في حياة الناس؛ ويؤخذ الناس بها بحكم القانون والسلطان؛ ويؤاخذ الناس على مخالفتها، ويؤخذون بالعقوبات‏.‏

والحياة البشرية لا تستقيم إلا إذا تلقت العقيدة والشعائر والشرائع من مصدر واحد؛ يملك السلطان على الضمائر والسرائر، كما يملك السلطان على الحركة والسلوك‏.‏ ويجزي الناس وفق شرائعه في الحياة الدنيا، كما يجزيهم وفق حسابه في الحياة الآخرة‏.‏

فأما حين تتوزع السلطة، وتتعدد مصادر التلقي‏.‏‏.‏ حين تكون السلطة لله في الضمائر والشعائر بينما السلطة لغيره في الأنظمة والشرائع‏.‏‏.‏ وحين تكون السلطة لله في جزاء الآخرة بينما السلطة لغيره في عقوبات الدنيا‏.‏‏.‏ حينئذ تتمزق النفس البشرية بين سلطتين مختلفتين، وبين اتجاهين مختلفين، وبين منهجين مختلفين‏.‏‏.‏ وحينئذ تفسد الحياة البشرية ذلك الفساد الذي تشير إليه آيات القرآن في مناسبات شتى‏:‏ ‏{‏لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا‏}‏ ‏{‏ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن‏}‏ ‏{‏ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون‏}‏ من أجل هذا جاء كل دين من عند الله ليكون منهج حياة‏.‏ وسواء جاء هذا الدين لقرية من القرى، أو لأمة من الأمم، أو للبشرية كافة في جميع أجيالها، فقد جاء ومعه شريعة معينة لحكم واقع الحياة، إلى جانب العقيدة التي تنشئ التصور الصحيح للحياة، إلى جانب الشعائر التعبدية التي تربط القلوب بالله‏.‏‏.‏ وكانت هذه الجوانب الثلاثة هي قوام دين الله‏.‏ حيثما جاء دين من عند الله‏.‏ لأن الحياة البشرية لا تصلح ولا تستقيم إلا حين يكون دين الله هو منهج الحياة‏.‏

وفي القرآن الكريم شواهد شتى على احتواء الديانات الأولى، التي ربما جاءت لقرية من القرى، أو لقبيلة من القبائل على هذا التكامل، في الصورة المناسبة للمرحلة التي تمر بها القرية أو القبيلة‏.‏‏.‏ وهنا يعرض هذا التكامل في الديانات الثلاث الكبرى‏.‏‏.‏ اليهودية، والنصرانية، والإسلام‏.‏‏.‏

ويبدأ بالتوراة في هذه الآيات التي نحن بصددها في هذه الفقرة‏:‏

‏{‏إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور‏}‏‏:‏

فالتوراة- كما أنزلها الله- كتاب الله الذي جاء لهداية بني إسرائيل، وإنارة طريقهم إلى الله‏.‏ وطريقهم في الحياة‏.‏‏.‏ وقد جاءت تحمل عقيدة التوحيد‏.‏ وتحمل شعائر تعبدية شتى‏.‏ وتحمل كذلك شريعة‏:‏

‏{‏يحكم بها النبيون الذين أسلموا، للذين هادوا، والربانيون والأحبار، بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء‏}‏‏.‏

أنزل الله التوراة لا لتكون هدى ونوراً للضمائر والقلوب بما فيها من عقيدة وعبادات فحسب‏.‏ ولكن كذلك لتكون هدى ونوراً بما فيها من شريعة تحكم الحياة الواقعية وفق منهج الله، وتحفظ هذه الحياة في إطار هذا المنهج‏.‏

ويحكم بها النبيون الذين أسلموا أنفسهم لله؛ فليس لهم في أنفسهم شيء؛ إنما هي كلها لله؛ وليست لهم مشيئة ولا سلطة ولا دعوى في خصيصة من خصائص الألوهية- وهذا هو الإسلام في معناه الأصيل- يحكمون بها للذين هادوا- فهي شريعتهم الخاصة نزلت لهم في حدودهم هذه وبصفتهم هذه- كما يحكم بها لهم الربانيون والأحبار؛ وهم قضاتهم وعلماؤهم‏.‏ وذلك بما أنهم قد كلفوا المحافظة على كتاب الله، وكلفوا أن يكونوا عليه شهداء، فيؤدوا له الشهادة في أنفسهم، بصياغة حياتهم الخاصة وفق توجيهاته، كما يؤدوا له الشهادة في قومهم بإقامة شريعته بينهم‏.‏

وقبل أن ينتهي السياق من الحديث عن التوراة، يلتفت إلى الجماعة المسلمة، ليوجهها في شأن الحكم بكتاب الله عامة، وما قد يعترض هذا الحكم من شهوات الناس وعنادهم وحربهم وكفاحهم، وواجب كل من استحفظ على كتاب الله في مثل هذا الموقف، وجزاء نكوله أو مخالفته‏:‏

‏{‏فلا تخشوا الناس واخشون؛ ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً‏.‏ ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون‏}‏‏.‏‏.‏

ولقد علم الله- سبحانه- أن الحكم بما أنزل الله ستواجهه- في كل زمان وفي كل أمة- معارضة من بعض الناس؛ ولن تتقبله نفوس هذا البعض بالرضى والقبول والاستسلام‏.‏‏.‏ ستواجهه معارضة الكبراء والطغاة وأصحاب السلطان الموروث‏.‏ ذلك أنه سينزع عنهم رداء الألوهية الذي يدعونه؛ ويرد الألوهية لله خالصة، حين ينزع عنهم حق الحاكمية والتشريع والحكم بما يشرعونه هم للناس مما لم يأذن به الله‏.‏‏.‏ وستواجهه معارضة أصحاب المصالح المادية القائمة على الاستغلال والظلم والسحت‏.‏ ذلك أن شريعة الله العادلة لن تبقي على مصالحهم الظالمة‏.‏‏.‏ وستواجهه معارضة ذوي الشهوات والأهواء والمتاع الفاجر والانحلال‏.‏ ذلك أن دين الله سيأخذهم بالتطهر منها وسيأخذهم بالعقوبة عليها‏.‏‏.‏ وستواجهه معارضة جهات شتى غير هذه وتيك وتلك؛ ممن لا يرضون أن يسود الخير والعدل والصلاح في الأرض‏.‏

علم الله- سبحانه- أن الحكم بما أنزل ستواجهه هذه المقاومة من شتى الجبهات؛ وأنه لا بد للمستحفظين عليه والشهداء أن يواجهوا هذه المقاومة؛ وإن يصمدوا لها، وإن يحتملوا تكاليفها في النفس والمال‏.‏‏.‏ فهو يناديهم‏:‏

‏{‏فلا تخشوا الناس واخشون‏}‏‏.‏‏.‏

فلا تقف خشيتهم للناس دون تنفيذهم لشريعة الله‏.‏ سواء من الناس أولئك الطغاة الذين يأبون الاستسلام لشريعة الله، ويرفضون الإقرار- من ثم- يتفرد الله- سبحانه- بالألوهية‏.‏ أو أولئك المستغلون الذين تحول شريعة الله بينهم وبين الاستغلال وقد مردوا عليه‏.‏ أو تلك الجموع المضللة او المنحرفة أو المنحلة التي تستثقل أحكام شريعة الله وتشغب عليها‏.‏‏.‏ لا تقف خشيتهم لهؤلاء جميعاً ولغيرهم من الناس دون المضي في تحكيم شريعة الله في الحياة‏.‏ فالله- وحده- هو الذي يستحق أن يخشوه‏.‏

والخشية لا تكون إلا لله‏.‏‏.‏

كذلك علم الله- سبحانه- أن بعض المستحفظين على كتاب الله المستشهدين؛ قد تراودهم أطماع الحياة الدنيا؛ وهم يجدون أصحاب السلطان، وأصحاب المال، وأصحاب الشهوات، لا يريدون حكم الله فيملقون شهوات هؤلاء جميعاً، طمعاً في عرض الحياة الدنيا- كما يقع من رجال الدين المحترفين في كل زمان وفي كل قبيل؛ وكما كان ذلك واقعاً في علماء بني إسرائيل‏.‏

فناداهم الله‏:‏

‏{‏ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً‏}‏‏.‏‏.‏

وذلك لقاء السكوت، أو لقاء التحريف، أو لقاء الفتاوى المدخولة‏!‏

وكل ثمن هو في حقيقته قليل‏.‏ ولو كان ملك الحياة الدنيا‏.‏‏.‏ فكيف وهو لا يزيد على أن يكون رواتب ووظائف وألقاباً ومصالح صغيرة؛ يباع بها الدين، وتشترى بها جهنم عن يقين‏؟‏‏!‏

إنه ليس أشنع من خيانة المستأمن؛ وليس أبشع من تفريط المستحفظ؛ وليس أخس من تدليس المستشهد‏.‏ والذين يحملون عنوان‏:‏ «رجال الدين» يخونون ويفرطون ويدلسون، فيسكتون عن العمل لتحكيم ما أنزل الله، ويحرفون الكلم عن مواضعه، لموافاة أهواء ذوي السلطان على حساب كتاب الله‏.‏‏.‏

‏{‏ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون‏}‏‏.‏‏.‏

بهذا الحسم الصارم الجازم‏.‏ وبهذا التعميم الذي تحمله «من» الشرطية وجملة الجواب‏.‏ بحيث يخرج من حدود الملابسة والزمان والمكان، وينطلق حكماً عاماً، على كل من لم يحكم بما أنزل الله، في أي جيل، ومن أي قبيل‏.‏‏.‏

والعلة هي التي أسلفنا‏.‏‏.‏ هي أن الذي لا يحكم بما أنزل الله، إنما يرفض ألوهية الله‏.‏ فالألوهية من خصائصها ومن مقتضاها الحاكمية التشريعية‏.‏ ومن يحكم بغير ما أنزل الله، يرفض ألوهية الله وخصائصها في جانب، ويدعي لنفسه هو حق الألوهية وخصائصها في جانب آخر‏.‏‏.‏ وماذا يكون الكفر إن لم يكن هو هذا وذاك‏؟‏ وما قيمة دعوى الإيمان أو الإسلام باللسان، والعمل- وهو أقوى تعبيراً من الكلام- ينطق بالكفر أفصح من اللسان‏؟‏‏!‏

إن المماحكة في هذا الحكم الصارم الجازم العام الشامل، لا تعني إلا محاولة التهرب من مواجهة الحقيقة‏.‏ والتأويل والتأول في مثل هذا الحكم لا يعني إلا محاولة تحريف الكلم عن مواضعه‏.‏‏.‏ وليس لهذه المماحكة من قيمة ولا أثر في صرف حكم الله عمن ينطبق عليهم بالنص الصريح الواضح الأكيد‏.‏

وبعد بيان هذا الأصل القاعدي في دين الله كله، يعود السياق، لعرض نماذج من شريعة التوراة التي أنزلها الله ليحكم بها النبيون والربانيون والأحبار للذين هادوا- بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء‏:‏

‏{‏وكتبنا عليهم فيها‏:‏ أن النفس بالنفس، والعين بالعين، والأنف بالأنف، والأذن بالأذن، والسن بالسن، والجروح قصاص‏}‏‏.‏‏.‏

وقد استبقيت هذه الأحكام التي نزلت بها التوراة في شريعة الإسلام، وأصبحت جزءاً من شريعة المسلمين، التي جاءت لتكون شريعة البشرية كلها إلى آخر الزمان‏.‏

وإن كانت لا تطبق إلا في دار الإسلام، لاعتبارات عملية بحتة؛ حيث لا تملك السلطة المسلمة أن تطبقها فيما وراء حدود دار الإسلام‏.‏ وحيثما كان ذلك في استطاعتها فهي مكلفة تنفيذها وتطبيقها، بحكم أن هذه الشريعة عامة للناس كافة، للأزمان كافة، كما أرادها الله‏.‏

وقد أضيف إليها في الإسلام حكم آخر في قوله تعالى‏:‏

‏{‏فمن تصدق به فهو كفارة له‏}‏‏.‏‏.‏

ولم يكن ذلك في شريعة التوارة‏.‏ إذ كان القصاص حتماً؛ لا تنازل فيه، ولا تصدق به، ومن ثم فلا كفارة‏.‏‏.‏

ويحسن أن نقول كلمة عن عقوبات القصاص هذه على قدر السياق في الظلال‏.‏

أول ما تقرره شريعة الله في القصاص، هو مبدأ المساواة‏.‏‏.‏ المساواة في الدماء والمساواة في العقوبة‏.‏‏.‏ ولم تكن شريعة أخرى- غير شريعة الله- تعترف بالمساواة بين النفوس، فتقتص للنفس بالنفس، وتقتص للجوارح بمثلها، على اختلاف المقامات والطبقات والأنساب والدماء والأجناس‏.‏‏.‏

النفس بالنفس‏.‏ والعين بالعين‏.‏ والأنف بالأنف‏.‏ والأذن بالأذن‏.‏ والسن بالسن‏.‏ والجروح قصاص‏.‏‏.‏ لا تمييز‏.‏ ولا عنصرية‏.‏ ولا طبقية‏.‏ ولا حاكم‏.‏ ولا محكوم‏.‏‏.‏ كلهم سواء أمام شريعة الله‏.‏ فكلهم من نفس واحدة في خلقة الله‏.‏

إن هذا المبدأ العظيم الذي جاءت به شريعة الله هو الإعلان الحقيقي الكامل لميلاد «الإنسان» الإنسان الذي يستمتع كل فرد فيه بحق المساواة‏.‏‏.‏ أولاً في التحاكم إلى شريعة واحدة وقضاء واحد‏.‏ وثانياً في المقاصة على أساس واحد وقيمة واحدة‏.‏

وهو أول إعلان‏.‏‏.‏ وقد تخلفت شرائع البشر الوضعية عشرات من القرون حتى ارتقت إلى بعض مستواه من ناحية النظريات القانونية، وإن ظلت دون هذا المستوى من ناحية التطبيق العملي‏.‏

ولقد انجرف اليهود الذين ورد هذا المبدأ العظيم في كتابهم- التوراة عنه؛ لا فيما بينهم وبين الناس فحسب، حيث كانوا يقولون‏:‏ ‏{‏ليس علينا في الأميين سبيل‏}‏ بل فيما بينهم هم أنفسهم‏.‏ على نحو ما رأينا فيما كان بين بني قريظة الذليلة، وبني النضير العزيزة؛ حتى جاءهم محمد- صلى الله عليه وسلم- فردهم إلى شريعة الله- شريعة المساواة‏.‏‏.‏ ورفع جباه الأذلاء منهم فساواها بجباه الأعزاء‏!‏

والقصاص على هذا الأساس العظيم- فوق ما يحمله من إعلان ميلاد الإنسان- هو العقاب الرادع الذي يجعل من يتجه إلى الاعتداء على النفس بالقتل، أو الاعتداء عليها بالجرح والكسر، يفكر مرتين ومرات قبل أن يقدم على ما حدثته به نفسه، وما زينه له اندفاعه؛ وهو يعلم أنه مأخوذ بالقتل إن قتل- دون نظر إلى نسبه أو مركزه، أو طبقته، أو جنسه- وأنه مأخوذ بمثل ما أحدث من الإصابة‏.‏ إذا قطع يداً أو رجلاً قطعت يده أو رجله؛ وإذا أتلف عيناً أو أذناً أو أنفاً أو سناً، أتلف من جسمه ما يقابل العضو الذي أتلفه‏.‏

‏.‏ وليس الأمر كذلك حين يعلم أن جزاءه هو السجن- طالت مدة السجن أو قصرت- فالألم في البدن، والنقص في الكيان، والتشويه في الخلقة شيء آخر غير الآم السجن‏.‏‏.‏ على نحو ما سبق بيانه في حد السرقة‏.‏‏.‏

والقصاص على هذا الأساس العظيم- فوق ما يحمله من إعلان ميلاد الإنسان- هو القضاء الذي تستريح إليه الفطرة؛ والذي يذهب بحزازات النفوس، وجراحات القلوب، والذي يسكن فورات الثأر الجامحة، التي يقودها الغضب الأعمى وحمية الجاهلية‏.‏‏.‏ وقد يقبل بعضهم الدية في القتل والتعويض في الجراحات‏.‏ ولكن بعض النفوس لا يشفيها إلا القصاص‏.‏‏.‏

وشرعُ الله في الإسلام يلحظ الفطرة- كما لحظها شرع الله في التوراة- حتى إذا ضمن لها القصاص المريح‏.‏‏.‏ راح يناشد فيها وجدان السماحة والعفو- عفو القادر على القصاص‏:‏

‏{‏فمن تصدق به فهو كفارة له‏}‏

من تصدق بالقصاص متطوعاً‏.‏‏.‏ سواء كان هو ولي الدم في حالة القتل ‏(‏والصدقة تكون بأخذ الدية مكان القصاص، أو بالتنازل عن الدم والدية معاً وهذا من حق الولي، إذ العقوبة والعفو متروكان له ويبقى للإمام تغزير القاتل بما يراه‏)‏ أو كان هو صاحب الحق في حالة الجروج كلها، فتنازل عن القصاص‏.‏‏.‏ من تصدق فصدقته هذه كفارة لذنوبه؛ يحط بها الله عنه‏.‏

وكثيراً ما تستجيش هذه الدعوة إلى السماحة والعفو، وتعليق القلب بعفو الله ومغفرته‏.‏ نفوساً لا يغنيها العوض المالي؛ ولا يسليها القصاص ذاته عمن فقدت أو عما فقدت‏.‏‏.‏ فماذا يعود على ولي المقتول من قتل القاتل‏؟‏ أو ماذا يعوضه من مال عمن فقد‏؟‏‏.‏‏.‏ إنه غاية ما يستطاع في الأرض لإقامة العدل، وتأمين الجماعة‏.‏‏.‏ ولكن تبقى في النفس بقية لا يمسح عليها إلا تعليق القلوب بالعوض الذي يجيء من عند الله‏.‏‏.‏

روى الإمام أحمد‏.‏ قال‏:‏ حدثنا وكيع، حدثنا يونس بن أبي إسحاق، عن أبي السفر، قال‏:‏ «كسر رجل من قريش سن رجل من الأنصار‏.‏ فاستعدى عليه معاوية‏.‏ فقال معاوية‏:‏ سنرضيه‏.‏‏.‏ فألح الأنصاري‏.‏‏.‏ فقال معاويه‏:‏ شأنك بصاحبك‏!‏- وأبو الدرداء جالس-» فقال أبو الدرداء‏:‏ سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول‏:‏ ما من مسلم يصاب بشيء من جسده فيتصدق به إلا رفعه الله به درجة، أو حط به عنه خطيئة «‏.‏ فقال الأنصارى‏:‏ فإني قد عفوت»‏.‏‏.‏

وهكذا رضيت نفس الرجل واستراحت بما لم ترض من مال معاوية الذي لوح له به التعويض‏.‏‏.‏

وتلك شريعة الله العليم بخلقة؛ وبما يحيك في نفوسهم من مشاعر وخواطر، وبما يتعمق قلوبهم ويرضيها؛ ويسكب فيها الاطمئنان والسلام من الأحكام‏.‏

وبعد عرض هذا الطرف من شريعة التوراة، التي صارت طرفاً من شريعة القرآن، يعقب بالحكم العام‏:‏

‏{‏ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون‏}‏‏.‏

والتعبير عام، ليس هناك ما يخصصه؛ ولكن الوصف الجديد هنا هو ‏{‏الظالمون‏}‏‏.‏

وهذا الوصف الجديد لا يعني أنها حالة أخرى غير التي سبق الوصف فيها بالكفر‏.‏ وإنما يعني إضافة صفة أخرى لمن لم يحكم بما أنزل الله‏.‏ فهو كافر باعتباره رافضاً لألوهية الله- سبحانه- واختصاصه بالتشريع لعباده، وبادعائه هو حق الألوهية بادعائه حق التشريع للناس‏.‏ وهو ظالم بحمل الناس على شريعة غير شريعة ربهم، الصالحة المصلحة لأحوالهم‏.‏ فوق ظلمه لنفسه بإيرادها موارد التهلكة، وتعريضها لعقاب الكفر‏.‏ وبتعريض حياة الناس- وهو معهم- للفساد‏.‏

وهذا ما يقتضيه اتحاد المسند إليه وفعل الشرط‏:‏ ‏{‏ومن لم يحكم بما أنزل الله‏}‏‏.‏‏.‏ فجواب الشرط الثاني يضاف إلى جواب الشرط الأول؛ ويعود كلاهما على المسند إليه في فعل الشرط وهو «من» المطلق العام‏.‏

ثم يمضي السياق في بيان اطراد هذا الحكم العام فيما بعد التوراة‏.‏

‏{‏وقفينا على آثارهم بعيسى بن مريم، مصدقاً لما بين يديه من التوراة‏.‏ وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور، ومصدقاً لما بين يديه من التوراة، وهدى وموعظة للمتقين‏.‏ وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون‏}‏‏.‏‏.‏

فقد آتى الله عيسى بن مريم الإنجيل، ليكون منهج حياة، وشريعة حكم‏.‏‏.‏ ولم يتضمن الإنجيل في ذاته تشريعاً إلا تعديلات طفيفة في شريعة التوراة‏.‏ وقد جاء مصدقاً لما بين يديه من التوراة، فاعتمد شريعتها- فيما عدا هذه التعديلات الطفيفة‏.‏‏.‏ وجعل الله فيه هدى ونوراً، وهدى وموعظة‏.‏‏.‏ ولكن لمن‏؟‏ ‏{‏للمتقين‏}‏‏.‏ فالمتقون هم الذين يجدون في كتب الله الهدى والنور والموعظة، هم الذين تتفتح قلوبهم لما في هذه الكتب من الهدى والنور؛ وهم الذين تتفتح لهم هذه الكتب عما فيها من الهدى والنور‏.‏‏.‏ أما القلوب الجاسية الغليظة الصلدة، فلا تبلغ إليها الموعظة؛ ولا تجد في الكلمات معانيها؛ ولا تجد في التوجيهات روحها؛ ولا تجد في العقيدة مذاقها؛ ولا تنتفع من هذا الهدى ومن هذا النور بهداية ولا معرفة ولا تستجيب‏.‏‏.‏ إن النور موجود، ولكن لا تدركه إلا البصيرة المفتوحة، وإن الهدى موجود، ولكن لا تدركه إلا الروح المستشرفة، وإن الموعظة موجودة، ولكن لا يلتقطها الا القلب الواعي‏.‏

وقد جعل الله في الإنجيل هدى ونوراً وموعظة للمتقين، وجعله منهج حياة وشريعة حكم لأهل الإنجيل‏.‏‏.‏ أي إنه خاص بهم، فليس رسالة عامة للبشر- شأنه في هذا شأن التوراة وشأن كل كتاب وكل رسالة وكل رسول، قبل هذا الدين الأخير- ولكن ما طابق من شريعته- التي هي شريعة التوراة- حكم القرآن فهو من شريعة القرآن‏.‏ كما مر بنا في شريعة القصاص‏.‏

وأهل الإنجيل كانوا إذن مطالبين أن يتحاكموا إلى الشريعة التي أقرها وصدقها الإنجيل من شريعة التوراة‏:‏

‏{‏وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه‏}‏‏.‏

فالقاعدة هي الحكم بما أنزل الله دون سواه‏.‏ وهم واليهود كذلك لن يكونوا على شيء حتى يقيموا التوراة والإنجيل- قبل الإسلام- وما أنزل إليهم من ربهم- بعد الإسلام- فكله شريعة واحدة، هم ملزمون بها، وشريعة الله الأخيرة هي الشريعة المعتمدة‏:‏

‏{‏ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون‏}‏‏.‏‏.‏

والنص هنا كذلك على عمومه وإطلاقه‏.‏‏.‏ وصفة الفسق تضاف إلى صفتي الكفر والظلم من قبل‏.‏ وليست تعني قوماً جدداً ولا حالة جديدة منفصلة عن الحالة الأولى‏.‏ إنما هي صفة زائدة على الصفتين قبلها، لاصقة بمن لم يحكم بما أنزل الله من أي جيل، ومن أي قبيل‏.‏

الكفر برفض ألوهية الله ممثلاً هذا في رفض شريعته‏.‏ والظلم بحمل الناس على غير شريعة الله وإشاعة الفساد في حياتهم‏.‏ والفسق بالخروج عن منهج الله واتباع غير طريقه‏.‏‏.‏ فهي صفات يتضمنها الفعل الأول، وتنطبق جميعها على الفاعل‏.‏‏.‏ ويبوء بها جميعاً دون تفريق‏.‏

وأخيراً يصل السياق إلى الرسالة الأخيرة؛ وإلى الشريعة الأخيرة‏.‏‏.‏ إنها الرسالة التي جاءت تعرض «الإسلام» في صورته النهائية الأخيرة؛ ليكون دين البشرية كلها؛ ولتكون شريعته هي شريعة الناس جميعاً؛ ولتهيمن على كل ماكان قبلها وتكون هي المرجع النهائي؛ ولتقيم منهج الله لحياة البشرية حتى يرث الله الأرض ومن عليها‏.‏ المنهج الذي تقوم عليه الحياة في شتى شعبها ونشاطها؛ والشريعة التي تعيش الحياة في إطارها وتدور حول محورها؛ وتستمد منها تصورها الاعتقادي، ونظامها الاجتماعي، وآداب سلوكها الفردي والجماعي‏.‏‏.‏ وقد جاءت كذلك ليحكم بها، لا لتعرف وتدرس، وتتحول إلى ثقافة في الكتب والدفاتر‏!‏ وقد جاءت لتتبع بكل دقة، ولا يترك شيء منها ويستبدل به حكم آخر في صغيرة من شئون الحياة أو كبيرة‏.‏‏.‏ فإما هذا وإما فهي الجاهلية والهوى‏.‏ ولا يشفع في هذه المخالفة أن يقول أحد إنه يجمع بين الناس بالتساهل في الدين‏.‏ فلو شاء الله لجعل الناس أمة واحدة‏.‏ إنما يريد الله أن تحكم شريعته، ثم يكون من أمر الناس ما يكون‏:‏

‏{‏وأنزلنا إليك الكتاب بالحق، مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه، فاحكم بينهم بما أنزل الله، ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق‏.‏ لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً‏.‏ ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة‏.‏ ولكن ليبلوكم فيما آتاكم، فاستبقوا الخيرات‏.‏ إلى الله مرجعكم جميعاً، فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون‏.‏ وأن احكم بينهم بما أنزل الله، ولا تتبع أهواءهم‏.‏ واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك‏.‏ فإن تولوا فاعلم إنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم، وإن كثيراً من الناس لفاسقون‏.‏

أفحكم الجاهلية يبغون‏؟‏ ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون‏.‏‏.‏‏}‏

ويقف الإنسان أمام هذه النصاعة في التعبير، وهذا الحسم في التقرير، وهذا الاحتياط البالغ لكل ما قد يهجس في الخاطر من مبررات لترك شيء- ولو قليل- من هذه الشريعة في بعض الملابسات والظروف‏.‏‏.‏ يقف الإنسان أمام هذا كله، فيعجب كيف ساغ لمسلم- يدعي الإسلام- أن يترك شريعة الله كلها، بدعوى الملابسات والظروف‏!‏ وكيف ساغ له أن يظل يدعي الإسلام بعد هذا الترك الكلي لشريعة الله‏!‏ وكيف لا يزال الناس يسمون أنفسهم «مسلمين»‏؟‏‏!‏ وقد خلعوا ربقة الإسلام من رقابهم، وهم يخلعون شريعة الله كلها؛ ويرفضون الإقرار له بالإلوهيه، في صورة رفضهم الإقرار بشريعته، وبصلاحية هذه الشريعه في جميع الملابسات والظروف، وبضرورة تطبيقها كلها في جميع الملابسات والظروف‏!‏

‏{‏وأنزلنا إليك الكتاب بالحق‏}‏‏.‏‏.‏

يتمثل الحق في صدوره من جهة الألوهية، وهي الجهه التي تملك حق تنزيل الشرائع، وفرض القوانين‏.‏‏.‏ ويتمثل الحق في محتوياته، وفي كل ما يعرض له من شئون العقيده والشريعه، وفي كل ما يقصه من خبر، وما يحمله من توجيه‏.‏

‏{‏مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه‏}‏‏.‏‏.‏

فهو الصوره الأخيره لدين الله، وهو المرجع الأخير في هذا الشأن، والمرجع الأخير في منهج الحياة وشرائع الناس، ونظام حياتهم، بلا تعديل بعد ذلك ولا تبديل‏.‏

ومن ثم فكل اختلاف يجب أن يرد إلى هذا الكتاب ليفصل فيه‏.‏ سواء كان هذا الاختلاف في التصور الاعتقادي بين أصحاب الديانات السماويه، أو في الشريعه التي جاء هذا الكتاب بصورتها الأخيره‏.‏ أو كان هذا الاختلاف بين المسلمين أنفسهم، فالمرجع الذي يعودون إليه بآرائهم في شأن الحياه كله هو هذا الكتاب، ولا قيمه لآراء الرجال ما لم يكن لها أصل تستند إليه من هذا المرجع الأخير‏.‏

وتترتب على هذه الحقيقه مقتضياتها المباشره‏:‏

‏{‏فاحكم بينهم بما أنزل الله، ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق‏}‏‏.‏‏.‏

والأمر موجه ابتداء إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فيما كان فيه من أمر أهل الكتاب الذين يجيئون إليه متحاكمين‏.‏ ولكنه ليس خاصاً بهذا السبب، بل هو عام‏.‏‏.‏ وإلى آخر الزمان‏.‏‏.‏ طالما أنه ليس هناك رسول جديد، ولا رساله جديدة، لتعديل شيء ما في هذا المرجع الأخير‏!‏

لقد كمل هذا الدين، وتمت به نعمة الله على المسلمين‏.‏ ورضيه الله لهم منهج حياه للناس أجمعين‏.‏ ولم يعد هنالك من سبيل لتعديل شيء فيه أو تبديله، ولا لترك شيء من حكمه إلى حكم آخر، ولا شيء من شريعته إلى شريعة أخرى‏.‏ وقد علم الله حين رضيه للناس، أنه يسع الناس جميعاً‏.‏ وعلم الله حين رضيه مرجعاً أخيراً أنه يحقق الخير للناس جميعاً‏.‏

وأنه يسع حياة الناس جميعاً، الى يوم الدين‏.‏ وأي تعديل في هذا المنهج- ودعك من العدول عنه- هو إنكار لهذا المعلوم من الدين بالضرورة‏.‏ يخرج صاحبه من هذا الدين‏.‏ ولو قال باللسان ألف مرة‏:‏ إنه من المسلمين‏!‏

وقد علم الله أن معاذير كثيره يمكن أن تقوم وأن يبرر بها العدول عن شيء مما أنزل الله واتباع أهواء المحكومين المتحاكمين‏.‏‏.‏ وأن هواجس قد تتسرب في ضرورة الحكم بما أنزل الله كله بلا عدول عن شيء فيه، في بعض الملابسات والظروف‏.‏ فحذر الله نبيه- صلى الله عليه وسلم- في هذه الآيات مرتين من اتباع أهواء المتحاكمين، ومن فتنتهم له عن بعض ما أنزل الله إليه‏.‏‏.‏

وأولى هذه الهواجس‏:‏ الرغبة البشرية الخفية في تأليف القلوب بين الطوائف المتعددة، والاتجاهات والعقائد المتجمعة في بلد واحد‏.‏ ومسايرة بعض رغباتهم عند ما تصطدم ببعض أحكام الشريعة، والميل إلى التساهل في الأمور الطفيفة، أو التي يبدو أنها ليست من أساسيات الشريعة‏!‏

وقد روي أن اليهود عرضوا على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن يؤمنوا له إذا تصالح معهم على التسامح في أحكام بعينها منها حكم الرجم‏.‏ وأن هذا التحذير قد نزل بخصوص هذا العرض‏.‏‏.‏ ولكن الأمر- كما هو ظاهر- أعم من حالة بعينها وعرض بعينه‏.‏ فهو أمر يعرض في مناسبات شتى، ويتعرض له أصحاب هذه الشريعة في كل حين‏.‏‏.‏ وقد شاء الله- سبحانه- أن يحسم في هذا الأمر، وأن يقطع الطريق على الرغبة البشرية الخفية في التساهل مراعاة للاعتبارات والظروف، وتأليفاً للقلوب حين تختلف الرغبات والأهواء‏.‏ فقال لنبيه‏:‏ إن الله لو شاء لجعل الناس أمة واحدة؛ ولكنه جعل لكل منهم طريقاً ومنهاجاً؛ وجعلهم مبتلين مختبرين فيما آتاهم من الدين والشريعة، وما آتاهم في الحياة كلها من عطايا‏.‏ وأن كلاً منهم يسلك طريقه؛ ثم يرجعون كلهم إلى الله، فينبئهم بالحقيقة، ويحاسبهم على ما اتخذوا من منهج وطريق‏.‏‏.‏ وأنه إذن لا يجوز أن يفكر في التساهل في شيء من الشريعة لتجميع المختلفين في المشارب والمناهج‏.‏‏.‏ فهم لا يتجمعون‏:‏

‏{‏لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً‏.‏ ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة‏.‏ ولكن ليبلوكم فيما آتاكم‏.‏ فاستبقوا الخيرات‏.‏ إلى الله مرجعكم جميعاً‏.‏ فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون‏}‏‏.‏

بذلك أغلق الله- سبحانه- مداخل الشيطان كلها؛ وبخاصة ما يبدو منها خيراً وتأليفاً للقلوب وتجميعاً للصفوف؛ بالتساهل في شيء من شريعة الله؛ في مقابل إرضاء الجميع‏!‏ أو في مقابل ما يسمونه وحدة الصفوف‏!‏

إن شريعة الله أبقى وأغلى من أن يضحى بجزء منها في مقابل شيء قدر الله ألا يكون‏!‏ فالناس قد خلقوا ولكل منهم استعداد، ولكل منهم مشرب، ولكل منهم منهج، ولكل منهم طريق‏.‏

ولحكمة من حكم الله خلقوا هكذا مختلفين‏.‏ وقد عرض الله عليهم الهدى؛ وتركهم يستبقون‏.‏ وجعل هذا ابتلاء لهم يقوم عليه جزاؤهم يوم يرجعون إليه، وهم إليه راجعون؛

وإنها لتعلة باطلة إذن، ومحاولة فاشلة، أن يحاول أحد تجميعهم على حساب شريعة الله، أو بتعبير آخر على حساب صلاح الحياة البشرية وفلاحها‏.‏ فالعدول أو التعديل في شريعة الله لا يعني شيئاً إلا الفساد في الأرض؛ وإلا الانحراف عن المنهج الوحيد القويم؛ وإلا انتفاء العدالة في حياة البشر؛ وإلا عبودية الناس بعضهم لبعض، واتخاذ بعضهم لبعض أرباباً من دون الله‏.‏‏.‏ وهو شر عظيم وفساد عظيم‏.‏‏.‏ لا يجوز ارتكابه في محاولة عقيمة لا تكون؛ لأنها غير ما قدره الله في طبيعة البشر؛ ولأنها مضادة للحكمة التي من أجلها قدر ما قدر من اختلاف المناهج والمشارع، والاتجاهات والمشارب‏.‏‏.‏ وهو خالق الخلق وصاحب الأمر الأول فيهم والأخير‏.‏ وإليه المرجع والمصير‏.‏‏.‏

إن محاولة التساهل في شيء من شريعة الله، لمثل هذا الغرض، تبدو- في ظل هذا النص الصادق الذي يبدو مصداقه في واقع الحياة البشرية في كل ناحية- محاولة سخيفة؛ لا مبرر لها من الواقع؛ ولا سند لها من إرادة الله؛ ولا قبول لها في حس المسلم، الذي لا يحاول إلا تحقيق مشيئة الله‏.‏ فكيف وبعض من يسمون أنفسهم «مسلمين» يقولون‏:‏ إنه لا يجوز تطبيق الشريعة حتى لا نخسر «السائحين»‏؟‏‏!‏‏!‏‏!‏ أي والله هكذا يقولون‏!‏

ويعود السياق فيؤكد هذه الحقيقة، ويزيدها وضوحاً‏.‏ فالنص الأول‏:‏ ‏{‏فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق‏}‏‏.‏‏.‏ قد يعني النهي عن ترك شريعة الله كلها إلى أهوائهم‏!‏ فالآن يحذره من فتنتهم له عن بعض ما أنزل الله إليه‏:‏

‏{‏وأن احكم بينهم بما أنزل الله، ولا تتبع أهواءهم، واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك‏}‏‏.‏‏.‏

فالتحذير هنا أشد وأدق؛ وهو تصوير للأمر على حقيقته‏.‏‏.‏ فهي فتنة يجب أن تحذر‏.‏‏.‏ والأمر في هذا المجال لا يعدو أن يكون حكماً بما أنزل الله كاملاً؛ أو أن يكون اتباعاً للهوى وفتنة يحذر الله منها‏.‏

ثم يستمر السياق في تتبع الهواجس والخواطر؛ فيهون على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أمرهم إذا لم يعجبهم هذا الاستمساك الكامل بالصغيرة قبل الكبيرة في هذه الشريعة، وإذا هم تولوا فلم يختاروا الإسلام ديناً؛ أو تولوا عن الاحتكام إلى شريعة الله ‏(‏في ذلك الأوان حيث كان هناك تخيير قبل أن يصبح هذا حتماً في دار الإسلام‏)‏‏:‏

‏{‏فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم‏.‏ وإن كثيراً من الناس لفاسقون‏}‏‏.‏

فإن تولوا فلا عليك منهم؛ ولا يفتنك هذا عن الاستمساك الكامل بحكم الله وشريعته‏.‏ ولا تجعل إعراضهم يفت في عضدك أو يحولك عن موقفك‏.‏

‏.‏ فإنهم إنما يتولون ويعرضون لأن الله يريد أن يجزيهم على بعض ذنوبهم‏.‏ فهم الذين سيصيبهم السوء بهذا الإعراض‏:‏ لا أنت ولا شريعة الله ودينه؛ ولا الصف المسلم المستمسك بدينه‏.‏‏.‏ ثم إنها طبيعة البشر‏:‏ ‏{‏وإن كثيراً من الناس لفاسقون‏}‏ فهم يخرجون وينحرفون‏.‏ لأنهم هكذا؛ ولا حيلة لك في هذا الأمر، ولا ذنب للشريعة‏!‏ ولا سبيل لاستقامتهم على الطريق‏!‏

وبذلك يغلق كل منافذ الشيطان ومداخله إلى النفس المؤمنة؛ ويأخذ الطريق على كل حجة وكل ذريعة لترك شيء من أحكام هذه الشريعة؛ لغرض من الأغراض؛ في ظرف من الظروف‏.‏‏.‏

ثم يقفهم على مفرق الطريق‏.‏‏.‏ فإنه إما حكم الله، وإما حكم الجاهلية‏.‏ ولا وسط بين الطرفين ولا بديل‏.‏‏.‏ حكم الله يقوم في الأرض، وشريعة الله تنفذ في حياة الناس، ومنهج الله يقود حياة البشر‏.‏‏.‏ أو أنه حكم الجاهلية، وشريعة الهوى، ومنهج العبودية‏.‏‏.‏ فأيهما يريدون‏؟‏

‏{‏أفحكم الجاهلية يبغون‏؟‏ ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

إن معنى الجاهلية يتحدد بهذا النص‏.‏ فالجاهلية- كما يصفها الله ويحددها قرآنه- هي حكم البشر للبشر، لأنها هي عبودية البشر للبشر، والخروج من عبودية الله، ورفض ألوهية الله، والاعتراف في مقابل هذا الرفض بألوهية بعض البشر وبالعبودية لهم من دون الله‏.‏‏.‏

إن الجاهلية- في ضوء هذا النص- ليست فترة من الزمان؛ ولكنها وضع من الأوضاع‏.‏ هذا الوضع يوجد بالأمس، ويوجد اليوم، ويوجد غداً، فيأخذ صفة الجاهلية، المقابلة للإسلام، والمناقضة للإسلام‏.‏

والناس- في أي زمان وفي أي مكان- إما أنهم يحكمون بشريعة الله- دون فتنة عن بعض منها- ويقبلونها ويسلمون بها تسليماً، فهم إذن في دين الله‏.‏ وإما إنهم يحكمون بشريعة من صنع البشر- في أي صورة من الصور- ويقبلونها فهم إذن في جاهلية؛ وهم في دين من يحكمون بشريعته، وليسوا بحال في دين الله‏.‏ والذي لا يبتغي حكم الله يبتغي حكم الجاهلية؛ والذي يرفض شريعة الله يقبل شريعة الجاهلية، ويعيش في الجاهلية‏.‏

وهذا مفرق الطريق، يقف الله الناس عليه‏.‏ وهم بعد ذلك بالخيار‏!‏

ثم يسألهم سؤال استنكار لابتغائهم حكم الجاهلية؛ وسؤال تقرير لأفضلية حكم الله‏.‏

‏{‏ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

وأجل‏!‏ فمن أحسن من الله حكماً‏؟‏

ومن ذا الذي يجرؤ على ادعاء أنه يشرع للناس، ويحكم فيهم، خيراً مما يشرع الله لهم ويحكم فيهم‏؟‏ وأية حجة يملك أن يسوقها بين يدي هذا الادعاء العريض‏؟‏

أيستطيع أن يقول‏:‏ إنه أعلم بالناس من خالق الناس‏؟‏ أيستطيع أن يقول‏:‏ إنه أرحم بالناس من رب الناس‏؟‏ أيستطيع أن يقول‏:‏ إنه أعرف بمصالح الناس من إله الناس‏؟‏ أيستطيع أن يقول‏:‏ إن الله- سبحانه- وهو يشرع شريعته الأخيرة، ويرسل رسوله الأخير؛ ويجعل رسوله خاتم النبيين، ويجعل رسالته خاتمة الرسالات، ويجعل شريعته شريعة الأبد‏.‏

‏.‏ كان- سبحانه- يجهل أن أحوالاً ستطرأ وأن حاجات ستستجد، وأن ملابسات ستقع؛ فلم يحسب حسابها في شريعته لأنها كانت خافية عليه، حتى انكشفت للناس في آخر الزمان‏؟‏‏!‏

ما الذي يستطيع أن يقوله من ينحي شريعة الله عن حكم الحياة، ويستبدل بها شريعة الجاهلية‏.‏ وحكم الجاهلية؛ ويجعل هواه هو أو هوى شعب من الشعوب، أو هوى جيل من أجيال البشر، فوق حكم الله، وفوق شريعة الله‏؟‏

ما الذي يستطيع أن يقوله‏.‏‏.‏ وبخاصة إذا كان يدعي أنه من المسلمين‏؟‏‏!‏

الظروف‏؟‏ الملابسات‏؟‏ عدم رغبة الناس‏؟‏ الخوف من الأعداء‏؟‏‏.‏‏.‏ ألم يكن هذا كله في علم الله؛ وهو يأمر المسلمين أن يقيموا بينهم شريعته، وأن يسيروا على منهجه، وألا يفتنوا عن بعض ما أنزله‏؟‏

قصور شريعة الله عن استيعاب الحاجات الطارئة، والأوضاع المتجددة، والاحوال المتغلبة‏؟‏ ألم يكن ذلك في علم الله؛ وهو يشدد هذا التشديد، ويحذر هذا التحذير‏؟‏

يستطيع غير المسلم أن يقول ما يشاء‏.‏‏.‏ ولكن المسلم‏.‏‏.‏ أو من يدعون الإسلام‏.‏‏.‏ ما الذي يقولونه من هذا كله، ثم يبقون على شيء من الإسلام‏؟‏ أو يبقى لهم شيء من الإسلام‏؟‏

إنه مفرق الطريق، الذي لا معدى عنده من الاختيار؛ ولا فائدة في المماحكة عنده ولا الجدال‏.‏‏.‏

إما إسلام وإما جاهلية‏.‏ إما إيمان وإما كفر‏.‏ إما حكم الله وإما حكم الجاهلية‏.‏‏.‏

والذين لا يحكمون بما أنزل الله هم الكافرون الظالمون الفاسقون‏.‏ والذين لا يقبلون حكم الله من المحكومين ما هم بمؤمنين‏.‏‏.‏

إن هذه القضية يجب أن تكون واضحة وحاسمة في ضمير المسلم؛ وألا يتردد في تطبيقها على واقع الناس في زمانه؛ والتسليم بمقتضى هذه الحقيقة ونتيجة هذا التطبيق على الأعداء والأصدقاء‏!‏

وما لم يحسم ضمير المسلم في هذه القضية، فلن يستقيم له ميزان؛ ولن يتضح له منهج، ولن يفرق في ضميره بين الحق والباطل؛ ولن يخطو خطوة واحدة في الطريق الصحيح‏.‏‏.‏ وإذا جاز أن تبقى هذه القضية غامضة أو مائعة في نفوس الجماهير من الناس؛ فما يجوز أن تبقى غامضة ولا مائعة في نفوس من يريدون أن يكونوا «المسلمين» وأن يحققوا لأنفسهم هذا الوصف العظيم‏.‏‏.‏